الإخلاص

 لتحميل المحاضرة pdf اضغطي هنا

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله... والصلاة والسلام على رسول الله
قال ابن القيم -رحمه الله-:  "الإخلاص هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة".
وذكر الجرجاني -رحمه الله –: "بتصرف": الإخلاص: تخليص القلب عن شائبة الشوب المكدِّر لصفائه.
وتحقيقه: أن كل شيء يتصور أن يشوبه غيرُه..
قال الله تعالى: )مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (.فإنما خلوص اللبن ألا يكون فيه شوبٌ من الفرث والدم.
وقال حذيفة المرعشي -رحمه الله-: "الإخلاص: أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن".
وقال بعضهم: "الإخلاص أن لا تطلب على عملك شاهدا إلا الله، ولا مجازيًا سواه".
والمخلص: هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الناس من أجل صلاح قلبه مع الله عزوجل، ولا يحب أن يطلع الناس على مثاقيل الذر من عمله.
v النية والإخلاص في كلام السلف:
قال يحيى بن أبي كثير-رحمه الله-: "تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل".
وقد كان العلماء يؤكدون على الإهتمام بتعليم الناس الإخلاص..
يقول ابن أي جمرة -رحمه الله-:  "وددت لو أنه كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلِّم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد للتدريس في أعمال النيات، ليس إلاَّ.
لأنه ما أُتِيَ على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك".
قال معروف الكرخي -رحمه الله-:  -يذكِّر نفسه- "يا نفس أخلِصي، تتخلصِّي".
v من أضرار عدم الإخلاص..
عدم قبول العمل :
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلاً قال: (يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضًا من عرض الدنيا، فقال النبي   e"لا أجر له" فأعظم ذلك الناسُ وقالوا للرجل: عُدْ لرسول الله e فلعلك لم تفهمه، فقال: - يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل وهو يبتغي عرضًا من عرض الدنيا فقال " لا أجر له، فقالوا للرجل عُدْ لرسول الله e فقال له الثالثة فقال له: - "لا أجر له").
v شأن السلف مع الإخلاص..
يقول الفضيل بن عياض-رحمه الله-: إنما يريد الله عز وجل منك نيتك وإرادتك.
وسُئل سهل بن عبدالله التستري: أيُّ شيء أشد على النفس؟ قال: الإخلاص، لأنه ليس لها فيه نصيب.
لمَّا عَلِمَ السَّلف أن الإخلاص من أصعب ما يواجهه المرء في حياته، وأنه يحتاج إلى جهاد حقيقي من قِبَلِ المسلم نفوا عن أنفسهم الإخلاص ولم يثبتوه لأنفسهــم.
قال هشام الدستوائي -رحمه الله-: "والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبتُ يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل".
هل تعرفون من هو هشام الدستوائي الذي يتّهم نفسه في الطلب؟
يقول عنه شعبة بن الحجاج -رحمه الله-:"ما أقول إن أحداً يطلب الحديث يريد به وجه الله إلا هشام الدستوائي". و يقول عنه شاذ بن فياض: "بكى هشام حتى فسدت عينه".
قال سفيان-رحمه الله-:  "ما عالجتُ شيئا أشدُّ عليَّ من نيتي لأنها تتقلب علي".
ويقول يوسف بن الحسين: "أعزُّ شيءٍ في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء من قلبي فكأنه ينبت على لونٍ آخر".
v إخفاء العمل..
يقول الحسن البصري متحدثاً عن اجتهاد السلف في إخفاء أعمالهم:
"إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده وردتُ الزور _ الضيوف _ وما يشعرون به، ولقد أدركتُ أقواماً ما كان على ظهر الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في سر فيكون علانية أبداً "!!

·     قصة صاحب النفق:
حاصر جيش المسلمين يوماً حصناً من حصون الأعداء، واشتدَّ عليهم رمي الأعداء، فقام أحد المسلمين من تلقاء نفسه وحفر نفقاً، واستطاع أن يصل إلى داخل الحصن، وقاتل حرَّاسه حتى فتح الباب، فدخل المسلمون الحصن وانتصروا، ولم يُعْرف من هو الرجل، وأراد مَسْلَمَة _ قائد جيش المسلمين حينها _ أن يعرف الرجل لمكافأته،
ولما لم يجده سأله بالله أن يأتيه، فأتاه طارق بليلٍ   وسأله شرطاً، وهو أنه إذا أخبره من هو فلا يبحث عنه بعد ذلك أبداً ... فعاهده فأخبره من هو، فكان مَسْلمَة يقول: اللهم احشرني مع صاحب النفق
·     الأعرابي والغنائم:
عن شدَّاد بن الهاد: أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي r فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك،
فأوصى به النبي r بعض أصحابه،
فلما كانت غزوة غنِمَ النبي r سبياً فقسَّم و قّسَمَ له، فأعطى أصحابه ما قَسَمَ له، وكان يرعى ظهرهم,
فلما جاء دفعوه إليه فقال: ما هذا؟  قالوا: قَسَمٌ قسمه لك النبي r فأخذه فجاء به إلى النبي   rفقال: ما هذا؟
قال: (قَسَـــمْتُهُ لك) قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أُدْمى إلى ها هنا _ وأشار إلى حلقه _ بسهمٍ فأموت فأدخل الجنة، فقال r : (إن تَصْدُق الله يصدقك) فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأُتِيَ به إلى النبي r يُحمل قد أصابه سهمٌ حيث أشار فقال النبي r : "أهو هو؟" قالوا: نعم،
قال: (صدق الله فصدقه) ثم كفَّنه في جُبَّته _ أي جُبَّة النبي r _ ثم قَّدَّمه فصلّى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته (اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك، فقُتِل شهيداً، أنا شهيدٌ على ذلك).
v  مسائل في الإخلاص:
إظهار العمل و إخفاؤه له أحوال :
·      الحالة الأولى: أن يكون العمل من السنة إخفاؤه، فيُخفيه، وذلك كــقيام الليل والخشوع.
·      الحالة الثانية: أن يكون العمل من السُّنَّة إظهاره فيُظهره، وذلك كالمحافظة على صلاة الجمعةِ والجماعة والجهر بالحق.
·      الحالة الثالثة: أن يكون العمل بين الإسرار والإظهار، فيُــسَنُّ إخفاؤه لمن يخشى في نفسه الرياء بذلك، ويُســَنُّ إظهاره لمن يريد أن يقتدي الناس به.
كــ صدقة التطوع، فإن المرء إذا ظن أنه سيدخل قلبه شيءٌ من الرياء إذا رآه الناس فعليه أن يُخفِيَ صدقته،
وأما إذا ظنَّ أن الناس سيقتدون به في صدقته وأنه سيجاهد نفسه في الرياء فيُســَــنُّ له إظهار صدقته.
ترك العمل خوف الرياء :
قال النووي -رحمه الله-: "من عزم على عبادة وتركها مخافة أن يراه الناس فهو مُــراءٍ".
هذا إذا ترك العمل بالكلية، أما إذا تركه أمام الناس ليفعله في الخفاء فلا بأس.
-نسأل الله البصيرة في الدين-.
v الفرق بين الرياء ومطلق التشريك في العمل:
الرياء: هو أن يعمل الرجل عملاً شرعيا يقصد به غير وجه الله.
التشريك في العمل: أن يعمل الرجل عملاً شرعياً وينوي مع قصد وجه الله شيئاً آخر.
وبالنظر في الأمرين السابقين نقول: أن العمل الشرعي ينقسم إلى أقسام:
·      القسم الأول:
أن يعمل الرجل العمل لله ولا يلتفت إلى شيءٍ آخر، وهذا القسم هو أعلى الأقسام وأفضلها.
·      القسم الثاني:
أن يعمل الرجل العمل لله، ويلتفت إلى أمرٍ آخر يجوز الالتفات إليه، كأن يصوم لوجه الله وينوي مع صيامه الحفاظ على صحته.
وكأن يسافر الرجل للحج لوجه الله، وينوي مع حجه التجارة، وكأن يجاهد الرجل لوجه الله، وينوي مع جهاده الحصول على شيءٍ من الغنيمة ليُطعم بها أهله وولده.
وكأن يمشي الرجل إلى المسجد قاصداً التقرب إلى الله، وينوي مع ذلك رياضة المشي.
فهذا لا يُــبطِل الأعمال، لكنه قد ينقص من أجرها، والأفضل أن لا ينوي الرجل في عمله إلا التقرب لله عز وجل.
·      القسم الثالث:
أن يعمل الرجل العمل لله، ويلتفت إلى أمرٍ لا يجوز الالتفات إليه، كأن يريد الثناء من الناس، أو ينوي الحصول على مالٍ مقابل صلاته، فهذا له أحوال:
-        إذا كان هذا الغرض قد خطر في باله "قبل أن يبدأ في العمل"، ويكون أصلاً وسبباً في العمل فهذا مُفْــسِدٌ له، كأن يقوم لأداء النافلة وهو يرجو نظر الناس له.
-       أن يعرض له هذا الغرض "أثناء العمل فيدافعه ويجاهده"، كمن بدأ في الصلاة ابتغاء وجه الله، ثم رأى من ينظر إليه، فأعجبه ذلك وطمع في مدحهم وثنائهم، ثم دافع هذا الطمع وهذه الرغبة حتى انتهى من صلاته، فعمله صحيح وله أجرٌ على جهاده.
-       أن يطرأ عليه الغرض والرياء "أثناء العمل ولا يدافعه", فهذا يبطل العمل.
·      القسم الرابع:
أن يقصد بعمله ما يجوز طلبه مع عدم الالتفات إلى الأجر الشرعي، كأن يصوم لأجل الحمية فقط، أو أن يكون جهاده لأجل الحصول على الغنيمة فقط، وأن يُخْرِجَ زكاة أمواله لتنمو فقط، فهذا عمله باطل،
قال تعالى): مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا(.
·      القسم الخامس:
أن يقصد بعمله ما لا يجوز طلبه شرعاً، مع عدم الالتفات إلى طلب مرضاة الله عز وجل: كأن يصلي مراءاة ً للناس فقط، فصاحب هذا القسم عمله بــاطل وهو آثــمٌ أيضا.
v الكذب للإبتعاد عن الريــاء:
قد يستبيح بعض المسلمين الكذب ابتعادا عن الرياء كما يدَّعُون، وهذا خطاٌ شنيع، وعملٌ فاحش، فإن الكذب ليس من أخلاق المسلم.
كمن يبني مسجداً أو مدرسةً لوجه الله، ثم يُــسْأَلُ عنها فيقول: بناها فلانٌ من الناس، وهو كاذبٌ في كلامه ومثل هذا عليه التورية فيقول مثلاً: "بنيت المسجد بــ مال أحد المسلمين" ويقصد بــ (أحد المسلمين) نفسه.
v أشياءٌ يُظَنُّ أنها من الرياء وليست منه:
-       إذا حمِدَكَ الناس على الخير بدون قصدٍ منك، وهذا عاجل بشرى المؤمن.
-       اكتساب الشهرة بغير طلبها، كالعالم، وطالب العمل الذي يعمل على تدريس الناس وتعليمهم أمر دينهم وإفتائهم فيما يــشْكل عليهم، قد ينال شيئاً من الشهرة، فلا يمتنع عن هذا الخير بحجة الابتعاد عن الرياء، بل عليه أن يجاهد نيته ويمضي في سبيله.
-       بعض الناس قد يرى رجلاً عابداً نشيطاً في العبادة، فــيــنْــشَط للعبادة مثله، فليس هذا رياءً، فإذا قصد بعبادته وجه الله فهو مأجور.
-       تحسين وتجميل الثياب والنعل، وطيب الرائحة كل هذا ليس من الرياء.
v عدم إظهار العلم:
ذكر ابن فارس عن أبي الحسن القطَّــَّان -رحمه الله- أنه قال: "أُصِبْــتُ ببصري، وأظنُّ أني عوقبت بكثرة كلامي أثناء الرحلة".
قال الذهبي -رحمه الله-: "صدق والله، فإنهم كانوا مع حسن القصد وصحَّة النية _ غالباً _ يخافون من الكلام وإظهار المعرفة والفضيلة، واليوم يُكْثِرون الكلام مع نقص العلم وسوء القصد، ثم إنَّ الله يفضحهم، ويلوح جهلهم وهواهم واضطرابهم فيما عَــلِموه".
وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردُّها، فإذا خشي أن تسبقه قام".
v كتم الذنوب وعدم التحدث بها ليس من الرياء:
 بل إننا مطالبون شرعا بالستر على أنفسنا وعلى غيرنا، وبعض الناس يظن أنه لابد من الإخبار عن الذنوب حتى يصبح مخلصا، وهو ظنٌّ في غير محله، وخديعةٌ من إبليس لهذا الرجل، لأن الإخبار بالذنب من باب إشاعة الفاحشة بين المؤمنين.



اللهم ارزقنا الإخلاص وثبِّته في قلوبنا.
(الله إنا نستغفرك ممَّا تبنا إليك منه ثم عُدْنــا فيه، ونستغفرك مما جعلناه لك على أنفسنا ثم لم نُوفِ لك به، ونستغفرك مما زعمنا أننا أردنا به وجهك فخالط قلوبنا فيه ما قد علمت)[1]
وصلِّ الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين [2]




[1] دعاء مطرِّف بن عبدالله.
[2] المرجع: سلسلة أعمال القلوب (الإخلاص) للشيخ محمد المنجد