علوّ الهمّة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين .. الرحمن الرحيم
اللهم لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضا..
نحمدك ربي كما يليق بجلال وجهك وعظيم سلطانك
وصلِّ اللهم وسلّم على نبينا محمد خير الأنام، وإمام كل إمام..
وعلى آله وصحبه أجمعين..
وبعد: بنياتي الحبيبات
قال e : (إن لله أهلين من الناس) قالوا: يا
رسول الله، من هم؟
قال: (هم أهل القرآن أهل الله وخاصته).
قال المناوي رحمه الله:
"أي حفظة القرآن العاملون به، هم أولياء الله المختصون به اختصاص أهل الإنسان به
سمّوا بذلك تعظيمًا لهم كما يقال "بيت الله".
تخيلي بنيتي:
خاصة الملك وحاشيته والمقربين له كم لهم من الحوافز والكرامات والأعطيات والهبات..
فكيف بملك الملوك سبحانه جل في علاه (وله المثل الأعلى) كيف يكون حال أهله ومن اختارهم..
في الدنيا: رفعة، رزق، بركة، توفيق، انشراح في الصدر، رضا عن أقدار الله، طمأنينة بال..
ثم في الآخرة:
(إِنَّ الْقُرْآنَ
يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ
كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ يَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟، فَيَقُولُ: مَا
أَعْرِفُكَ، فَيَقُولُ لَهُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي
الهواجر، وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ،
وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ، قَالَ: فَيُعْطَى الْمُلْكَ
بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ
الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ، لَا يَقُومُ لَهُمَا أَهْلُ
الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذَا؟، قَالَ: فَيُقَالُ لَهُمَا:
بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي
دَرَجِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذَا
كَانَ أَوْ تَرْتِيلًا).
نسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلنا وإياكم
وأهلونا ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا ومن علمنا خيراً ومن علمناه خيراً منهم.
حبيباتي:
حديثنا اليوم بإذن الله عن علو
الهمة وأنتن أهل الهمة والعزيمة وما حضوركن يومياً والتزامكن بحفظ كتاب الله إلا دليل
ذلك، كل واحدة منكن ما جاءت إلى هنا إلا لأنها تريد الأفضل ما يكفيها أن تحفظ فحسب،
إنما تريد أن تصل إلى درجة المهارة في قراءة القرآن لأنها تعرف أن الماهر في
القرآن مع السفرة الكرام البررة.
تريد أن تتعلم ثم تعلّم ... (خيركم
من تعلّم القرآن وعلمه)
هذا هو علو الهمة.. وهو التطلع
للأعلى.. وهو أمر لا يحسنه إلا أكابر الناس الذين جعل الله التوفيق حليفهم.
وسنتطرق بإذن الله إلى عدد من
المحاور:
- تعريف الهمة.
- علو الهمة في الكتاب والسنة.
- أقسام ومراتب الهمّة.
- كيف أكون عالية همّة؟
- نماذج من أهل الهمم.
v
بداية.. ماهي الهمّة؟
الهمّة
مأخوذة من الهمّ, وهو ماهمّ به من أمر ليفعل..
والهمّة هي:
الباعث على الفعل, وتوصف بعلو أو سفول فتكون همّة عالية وهمّة سافلة.
وقيل:
علو الهمّة هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور,
يعني: أن الهمّة العالية هي عبارة
عن نشدان الكمال الممكن, فعالي الهمة لا يرضى إلا بأعلى المراتب في كل شيء ولا
يصبو إلاّ إلى ما أمكنه أن يصل إليه من الكمالات في كل الأحوال, وينظر إلى كل ما
دون هذا الكمال نظرة استصغار..
ويتضح لنا التعريف حين نستحضر كلام الخليفة
عمر بن عبدالعزيز عن نفسه حين قال:
"إن لي نفساً تواقة وما حققت
شيئاً إلا تاقت لما هو أعلى منه, تاقت نفسي إلى الإمارة فوليتها, وتاقت نفسي إلى
الخلافة فنلتها, والآن تاقت نفسي إلى الجنّة فأرجو أن أكون من أكون من أهلها"
والهمّة:
هي الباعث على الفعل.
قال أحد الصالحين:
"همتك فاحفظها فإن الهمة هي مقدِّمة الأشياء، فمن صلحت له نيته وصدق فيها,
صلح له ما وراء ذلك من الأعمال".
والهمّة أمر قلبي ما يعلم عنها
أحد..
أنا أتوقع أن بعضكم من تحدث نفسها
بالتوجه للحديث وحفظه بعد حفظ القرآن لتجمع بين الوحيين,
أو تدخل الإقراء وتأخذ السند ثم
تشرع في دراسة وعرض القراءات الأخرى,
منكم من تحدّث نفسها حين تعود إلى
بلدها بفتح دار أو حلقة تحفيظ قرآن تطبّق فيها نفس المنهجية التي درست بها هنا في
المعهد من التركيز على المهارة في الأداء,
الهمّــة أمر نحدِّث به أنفسنا لا يعلم
به من حولنا لكنهم يرون آثاره.
·
قصة
سنية..
v الآن يا حافظات القرآن نأتي إلى علو الهمّة في القرآن
والسنّة..
وقد
تواردت نصوص القرآن الكريم والسنّة الشريفة على حث المؤمنين على ارتياد معالي
الأمور, والتسابق في الخيرات, وتحذيرهم من سقوط الهمّة وتنوعت أساليب القرآن
الكريم في ذلك..
فمن
ذلك:
-
ذم
ساقطي الهمة :
كما قصّ الله علينا من قول موسى
عليه السلام لقومه: )أَتَسْتَبْدِلُونَ
الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ(
وقال تعالى: )وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ
الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا
وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ
مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(
كذلك ذم الله المنافقين المتخلفين
عن الجهاد لسقوط همتهم وقناعتهم بالدون, فقال في شأنهم :
)رَضُوا
بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ(
وبيّن أنهم لسقوط همتهم قعدوا عن
الجهاد فقال:
)وَلَوْ
أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ
انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ(
وشنّع الله عزوجل على الذين يؤثرون
الحياة الدنيا على الآخرة, ويجعلونها أكبر همهم وغاية علمهم, باعتبار هذا الإيثار
من أسوأ مظاهر دنو الهمّة وبيّن أن هذا الركون تَسَفُّل ونزول يترفع عنه المؤمن
)يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ
الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ(
وقال تعالى:)فَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ
خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي
الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ * أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا
كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ(
وعاب حرص اليهود على حياة.. أي حياة
ولو كانت مهينة ذليلة فقال عزوجل :
)وَلَتَجِدَنَّهُمْ
أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ(
- وقصّ علينا القرآن مواقف الهمّة العالية
عن المؤمنين من اتباع الأنبياء :
فقال موسى عليه السلام: )قالَ
رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا
عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ(
وفي قصة داوود وجالوت: )قالَ
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ
غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ(
- ومنها أنه تعالى أمر المؤمنين بالهمة
العالية والتنافس في الخيرات:
فقال عزوجل : )وَسارِعُوا
إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(
وقال سبحانه: )فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْراتِ(
وقال سبحانه: )لِمِثْلِ
هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ(
وامتدح أولياؤه بأنهم )يُسارِعُونَ
فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ(
ونحوه قال تعالى: )قُلْ
هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ(
قال الزمخشري: "أريد
به التحريك من حميّة الجاهل وأنفته ليهاب به إلى التعلّم, ولينهض بنفسه عن صفة
الجهل إلى شرف العلم".
v أمّا في السنة الشريفة:
فحدثي ماشئتِ عن علوّ همّة أصحاب
رسول اللهe, وتسابقهم إلى المعالي كيف لا وقد أوصاهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال :
-
(احرص
على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز)
-
وقالe:
(إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل)
-
وكان
من دعائهe: "وأسألك العزيمة على الرشد"
-
وكان
يتعوذ بالله من العجز والكسل, وقال لأصحابه رضي الله عنهم: "إن الله يحب
معالي الأمور ويكره سفاسفها".
-
وبيّن
أن أكمل حالات المؤمن أن لا يكون له هم إلا الإستعداد للآخرة, فقال عليه
السلام : (من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه وجمع شمله وأتته الدنيا
وهي راغمة ومن كانت الدنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه وفرّق عليه شمله ولم يأته
من الدنيا إلا ماقُدّر له).
- وامتدح عليه الصلاة والسلام قومًا بعلو همتهم فقال : (لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من فارس)
- وامتدح عليه الصلاة والسلام قومًا بعلو همتهم فقال : (لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من فارس)
-
وكذلك
قولهe : (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول،
ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا
إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح، لأتوهما ولو حبوا)
-
وقالe:
(احضروا الذكر، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة، وإن
دخلها)
-
وعلّمنا
eعلو
الهمّة في الدعاء, فأمرنا أن نسأله تعالى من فضله ولا نستعظم شيئاً في قدرة الله
وجوده: فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول اللهe:
(إذا سأل أحدكم فليكثر فإنما يسأل ربه عزوجل)
-
وعن
أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله eقال:
(ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟ فقلت: أسألك أن تعلمني مما علمك
الله قال: فنزعت نمرة على ظهري, فبسطتها بيني وبينه فحدثني حتى إذا استوعبت حديثه
قال: اجمعها فصرها إليك فأصبحت لا أسقط حرفاً مما حدثني).
-
وفي
حديث السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب لمّا قام عكاشة بن محصن فقال: ادع
الله أن يجعلني منهم، قال: (اللهم اجعله منهم) ثم قام إليه رجل آخر قال: ادع
الله أن يجعلني منهم، قال: (سبقك بها عكاشة).
فهكذا كانوا –رضي الله عنهم- لا
تلوح منقبة أخروية ولا فضيلة دينية إلا صعدوا إليها واستشرفوا لها وتنافسوا فيها
-
ولمّا
قال عليه الصلاة والسلام يوم خيبر: (لأعطين الراية، غدا رجلا يحبه الله ورسوله،
ويحب الله ورسوله، ليس بفرار, يفتح الله عليه " فبات الناس يدوكون –
أي يخوضون ويموجون فيمن يدفعها إليه- حتى قال عمر: ما
أحببت الإمارة إلا يومئذ, فلما أصبح أعطاها عليّا ففتح الله عليه).
-
وعَنْ
رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: (كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللهِ e نَهَارِي فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ أَوَيْتُ إِلَى بَابِ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَتُّ عِنْدَهُ، فَلَا أَزَالُ أَسْمَعُهُ
يَقُولُ: «سُبْحَانَ اللهِ سُبْحَانَ رَبِّي» حَتَّى أَمَلُّ أَوْ تَغْلِبَنِي
عَيْنِي فَأَنَامُ، فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: (يَا رَبِيعَةُ سَلْنِي فَأُعْطِيَكَ)
قُلْتُ: أَنْظِرْنِي حَتَّى أَنْظُرَ، وتَذَكَرْتُ أَنَّ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ
مُنْقَطِعَةٌ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَسْأَلُكَ أنْ تَدْعُوَ اللهَ أَنْ
يُجَنِّبَنِي مِنَ النَّارِ وَيُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ e ، ثُمَّ قَالَ: (مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا؟) قُلْتُ: مَا أَمَرَنِي بِهِ
أَحَدٌ، وَلَكِنِّي عَلِمْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ فَانِيَةٌ وَأَنْتَ
مِنَ اللهِ بِالْمَكَانِ الَّذِي أَنْتَ بِهِ فأَحْبَبْتُ أنْ تَدْعُوَ اللهَ لي قَالَ:
إِنِّي فَاعِلٌ، فَأَعِنِّي بِكَثْرَةِ السُّجُودِ)
ولفظ مسلم:
- كنت أبيت مع رسول الله eفأتيته
بوضوئه وحاجته فقال لي: (سل, فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. قال: أو غير ذلك قلت:
هو ذاك. قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود)
-
وروى
عبد الله بن عمرو، أن رجلا، قال: (يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا، فقال:
رسول اللهe : قل كما يقولون فإذا انتهيت فسل تعطه)
-
ولما
أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إلى بدر أراد سعد بن خثيمة وأبوه جميعاً
الخروج معه, فذكر ذلك للنبي e فأمر أن يخرج أحدهما فاستهما, فقال خثيمة بن
الحارث لابنه سعد رضي الله عنهما إنه لابد لأحدنا أن يقيم فأقم مع نسائك, فقال
سعد: لو كان غير الجنة لآثرتك به إني أرجو الشهادة في وجهي هذا, فاستهما فخرج سهم
سعد فخرج مع رسول الله e إلى بدر فقتله عمرو بن عبد ودّ.
v
نأتي الآن إلى أقسام الهمة :
تقسم
الهمة إلى تقسيمين، فمن حيث الرفعة وضدها إلى (عالية وساقطة) أو إلى (مذمومة
وممدوحة):
وهنا يرد سؤال:
· هل
الإرادة القوية مذمومة أم ممدوحة؟
لا يمكن أن تكون الإرادة القوية ممدوحة
مطلقًا لأن إبليس إرادته قوية في إغواء بني آدم،
فإذا قسناها كإرادة فهي قوية لكنها
(مذمومة) لأن مرادها مذموم.
لكن إرادة الرسل والرسول ﷺ في تبليغ
الرسالة (ممدوحة) ومن أمدح الإرادات البشرية لأن
المراد بها هو رضا الله سبحانه، وتبليغ ما أمر به.
قاعدة في بيان الكمال في الإرادة:
إذا اتفقت القوّة والعلو في الإدراك
والمراد كان الكمال..
وإذا تخلّف أحدهما عن الآخر أو تخلفا
جميعًا كان النقص.. والنقص يتفاوت
· هل
قوة الإرادة مع ضعف المراد (دنو أو نزول أو سفل) أخفّ من ضعف الإرادة مع قوة
المراد.. -وكلاهما نقص- لكن أيهما أشد نقصًا؟
الأول أشد نقصًا: لأن الأول إرادته قوية
في الشر،
لكن الثاني: مراده خير لكن إرادته ضعيفة.
فلذلك صاحب الحق وطالب العلم يجب أن يدرك
فضل الله سبحانه وتعالى عليه بما هيّأه له من التصدّي
لمراد كبير فيجب أن يعظم ذلك في نفسه وبذلك تقوى الإرادة.
وفي العبادات يتفاوت هذا المعنى..
فمثلًا:
من تقوى في نفسه معاني الصلاة واستشعر
وتفكر في حال النبي ﷺ والصحابة في الصلاة تكون أقوى ما تكون، وإذا ضعفت هذه
المعاني فتكون حركات تفتقد الكثير من المعاني
وتقسم من حيث الاستعداد
الفطري إلى وهبية ومكتسبة.
وليس معنى أن منها ما هو فطري أنها
لا سبيل لزيادة رفعتها، بل هي مثل باقي الصفات العقلية والخلقية كالذكاء وقوة
الذاكرة وحسن الخلق،
قال ابن القيم -رحمه
الله-: "وقد عرفت بالدليل أن الهمة
مولودة مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، فإذا حثثت سادت، ومتى
رأيت في نفسك عجزاً فسل المنعم، أو كسلاً فالجأ إلى الموفّق، فلن تنال خيراً إلا بطاعته
ولن يفوتك خير إلا بمعصيته "
حاول جسيمات الأمور ولا تقل إن المحامد والعلى أرزاق
وارغب
بنفسك أن تكون مقصرا عن
غايةٍ فيها الطلاب سباق
v
مراتب الهمم:
جاء عنه e أنه قال: (إنما الدنيا
لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلمًا فهو يتقي فيه ربه، ويصِلُ فيه رحمه ويعلم
لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالاً فهو
صادق النية، يقول لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد
رزقه الله مالاً ولم يرزقه علمًا، فهو يخبِط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا
يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالاً
ولا علمًا فهو يقول لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء).
وعلى هذا التقسيم
والتمثيل النبوي ينقسم الناس وتتفاوت منازلهم في الهمة:
1. منهم من يطلب المعالي بلسانه وليس له
همّة في الوصول إليها، ويصدق عليه قول الشاعر:
وما
نيل المطالب بالتمّني ولكن تؤخذ
الدنيا غلابا
2. ومنهم من لا يطلب إلا سفاسف الأمور
ودناياها، ويجتهد في تحصيلها، وهذا -إن اهتدى- يكون سبّاقاً للخيرات
"خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا "
3. فريق ساقط الهمّة يهوى سفاسف الأمور
ويقعد به العجز عنها، وهم كمن وصفهم الشاعر:
إني
رأيت من المكارم حسبكم أن تلبسوا خزّ الثياب وتشعبوا
فإذا تذوكرت المكارم
يوما في مجلسٍ أنتم به فتقنعّوا
4. وأعلى الهمم.. همّة من تسمو مطالبه إلى ما
يحبه الله ورسوله، ولا ترضى نفسه بالقليل من العمل، ولا يقتل الطموحات إلا استصغار
الإنسان لنفسه.
بعض الناس يكبّل نفسه بالعجز الذي
يصل بها إلى حدّ الشلل، لأن طاقة الإنسان تتآكل حين يزدري الإنسان نفسه.
والإنسان الطموح هو الذي يجعل أمامه
هدفاً عالياً حتى لو كانت قدراته لا تؤهله لذلك الآن، لأنه سوف يحرص على تنمية
قدراته حتى يصل إلى الهدف. ومن الجميل أنه إذا نمت القدرات فلن يبقى عند هدفه
الأول، بل سوف تنمو الطموحات وتتعالى الأهداف، وهذا مشاهد مجرّب تضعين لنفسك هدف
وتسعين إليه، ثم يفتح الله عليك من عونه وسداده وتوفيقه ما يشعل فيك العزيمة وقوّة
الإرادة للوصول إلى أعلى ممّا وصلت ويمدك سبحانه بهمّة عالية تتخطين بها ما يواجهك
من عثرات، ولا أحد يعيق أهل القمم، فالأحجار الكبيرة تعين على التسلق، وإنما تقف
عثرةَ في طريق ضعيف الهمم.
وقد قيل: إن ذو الهمّة إن حط،
فنفسه تأبى إلا علوّا، كالشعلة من النار يصوّبها صاحبها، وتأبى إلا ارتفاعا.
ومن فوائد هذا الحديث:
أن همّة المؤمن ونيته قد تبلغ به
مالم يبلغه بعمله وقد قالe : (من همّ بحسنةٍ، فلم يعملها كتبها الله
عنده حسنة كاملة)
وقالe:
(من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)
وقال عليه الصلاة والسلام فيمن تجهز
للجهاد، ثم أدركه الموت: (قد أوقع الله أجره على قدر نيته).
v
ثمرات الهمّة العالية:
1. علوّ الهمة سبب للحصول على الحياة
الطيبة، لأن الحياة الطيبة لا تنال إلا بالهمة العالية والإرادة الخالصة وأدنى
الناس حياة أدناهم همة، وأضعفهم طلبا، وحياة البهائم خير من حياته.
2. صاحب الهمّة العالية يستفيد من حياته
أعظم استفادة وتكون أوقاته مثمرة بناءة..
قال الإمام ابن عقيل
الحنبلي: "إني لا يحل لي أن أضيع ساعةً من
عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة أعملت فكري في حال
راحتي وأنا مستطرح"
وقد قيل: "كل
ناجح لديه نوع من الشباك يلتقط بها فضلات الأيام والأجزاء الصغيرة من الساعات مما
يكنسه معظم الناس بين مهملات الحياة، وإن من يدَّخر كل الدقائق المفردة ، وأنصاف الساعات
والفسحات التي بين وقت وآخر، ويستعمل كل هذه الأوقات ويستفيد منها ليأتي بنتائج
باهرة يَدهَش لها الذين لم يفطنوا لهذا السر العظيم الشأن"
3. تحقيق كثير من الأمور التي يستصعبها
الناس ويتباعدونها وقد قيل "أحلام الأمس حقائق اليوم, وأحلام اليوم حقائق
الغد"
4. علوّ الهمّة تجعل الإنسان يجود بكل ما
يستطيع في سبيل تحقيق غايته، لأنه يعلم أن المكارم محوطةٌ بالمكاره، وأن المصالح
والخيرات لا تنال إلا بحظٍّ من المشقة ولا يعبر إليها إلا على جسر من التعب
وإذا
كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها
الأجسام
5. علو الهمّة تجعل صاحبها قدوة في مجتمعة،
ينظر إليه الكسالى والقاعدون فيقتدون بهمته، وتناط به صعاب الأمور وتوكل إليه.
روي عن عمر رضي الله عنه قال: "
لا تصغرّن همتكم فإني لم أرَ أقعد عن المكرمات من صغر الهمم"
v
كيف أكون عالية الهمّة ( وسائل ترقية الهمّة) :
1. الدعاء الصادق والالتجاء إلى الله سبحانه
وتعالى ، وجاء من دعاء النبي e " اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل"
العجز: هو عدم القدرة على فعل الشيء، والكسل التثاقل عن الفعل مع القدرة عليه،
قال
ابن القيم -رحمه الله- : "الإنسان
مندوب إلى استعاذته بالله تعالى من العجز والكسل، فالعجز عدم القدرة على الحيلة
النافعة، والكسل عدم الإرادة لفعلها، فالعاجز لا يستطيع الحيلة، والكسلان لا
يريدها، ووصف ابن القيم هذين الخلقين بأنهما: مفتاح كل شر"
2. المجاهدة وإعادة المحاولة، وتكرار طرق
الأبواب )والذين
جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا(
3. قراءة سير السلف الصالح والتنزه في
أخباره وعجيب سيرتهم، يقول محمد بن علي
الأسلمي: "قمت ليلة سحراً لآخذ النوبة على ابن الأخرم فوجدت قد سبقني
ثلاثون قارئاً ولم تدركني النوبة إلا العصر"
وقال أبو العباس ثعلب:
"ما فقدت إبراهيم الحربي من مجلس لغة ولا نحو خمسين عاماً"
4. مصاحبة صواحب الهمّة العالية، وهذا من
أنجح الوسائل وأظنّكم توافقوني في هذه النقطة بشدة، بعد أن جربتن رفقة أهل القرآن،
كيف تؤثر عليك الرفيقة صاحبة الهمّة العالية لدرجة أنك تستحضرين أحاديثها وأقوالها
وأفعالها وتجدين فيها دافع قوي لك حين تفتر عزيمتك.
5. مراجعة جدول الأعمال اليومي، وهذا يعني
أنك كتبت أعمالك مسبقاً ومراعاة الأولويات والأهم فالمهم، ومن جربت الكتاية
اليومية للمهام وتدوينها تعرف لّذة الإنجاز وكيف أنها تفرق عن الاحتفاظ بالأعمال
وترتيبها ذهنياً فقط.
6. التنافس والتنازع بينك وبين همتك.. ومعنى
ذلك أنك إذا أردت تطوير همتك ، حمّلي نفسك أعباءً وأعمالاً يومية لم تكن موجودة في
حياتك، بحيث يحدث نوع من التحدّي داخل النفس لكن انتقي الأعمال بعناية حتى لا
تصابين بالإحباط.
7. الإبتعاد عن كل مامن شأنه الهبوط بالهمّة
وتضييعها وأمثلة هذا كثيرة، وكل واحده تعرف من نفسها ما الذي يشغلها ويفوّت عليها
الكثير من التقدم.
8. الإبتعاد عن التسويف.. يقول الشاعر:
ولا أوخرّ شغل اليوم عن
كسل إلى غدٍ إن يوم العاجزين غَدُ
v
صفات عالية الهمّة:
· تعرف قيمة الوقت جيداً .
· لا يضرها التفرد في الطريق ..
· لا تغتر بما عندها من علم وتعلم أنّ هناك
من هو أعلم منها .
قال الشيخ بكر أبو زيد –رحمه
الله-:
العلم ثلاثة أشبار :
" إذا تعلم الإنسان الشبر الأول تكبّر
ثم إذا تعلم الإنسان الشبر الثاني تواضع
ثم إذا تعلم الإنسان الشبر الثالث علم أنه لا يعلم شيئاً "
" إذا تعلم الإنسان الشبر الأول تكبّر
ثم إذا تعلم الإنسان الشبر الثاني تواضع
ثم إذا تعلم الإنسان الشبر الثالث علم أنه لا يعلم شيئاً "
ومن أخذت بهذه الأسباب .. فستصل
بإذن الله..
تجدونها طالبة للمعالي دائماً،
تحترق على ما مضى من أيّام ويضايقها كثيراً قلة الوقت مع عظيم إنجازها.
يظهر عليها ثبات الرأي، وقلة
التردد، والعزيمة، والإقدام
إذا
كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد
الرأي ان تترددا
عالية الهمة تستخف بالمرتبة السفلى،
بل ربما حتى بالعليا ولا تهدأ حتى تصل إلى أسمى وأعلى غاية.
قال علي رضي الله عنه:
إذا
أظمأتك أكف الرجال كفتك القناعة
شبعاً ورياً
وكن
رجلاً رجله في الثرى وهامّة همته في
الثريا
قال إبراهيم الحربي:
"قد رأيت رجالات الدنيا، لم أر مثل ثلاثة: رأيت أحمد بن حنبل وتعجز النساء، أن
تلد مثله، ورأيت بشر بن الحارث من قرنه إلى قدمه مملوءاً عقلاً، ورأيت أبا عبيد
القاسم بن سلام كأنه جبل نفخ فيه علم".
v
نماذج لعلوّ الهمّة:
- هذا شاب أصابه الشلل الرباعي عافانا الله
وإياكم بعد حادث تعرض له. فأصبح أسير الفراش في أحد المستشفيات ولسنوات ومع ذلك كل
من زاره تعجب من همه وهمة نفسه العالية وحرقته على الدين حتى أنه أسلم على يديه
عدد كبير من العاملين والأطباء في المستشفى من الرجال والنساء، وقد جعل ما تحت
سريرة مستودعا لكراتين الكتيبات والأشرطة وبعدد من اللغات فلا يدخل عليه أحد إلا
ويخرج بشريط وكتاب بحسب لغته.
- يقول أحد الثقات: اتصلت بي إحدى الأخوات
تطلب عنوانين للمراسلة الدعوية، وكانت باستمرار تطلب مني كميات كثيرة من الكتب
والمطويات وبعدد من اللغات، كان يصلني منها كل أسبوع عشرات الرسائل مجهزة للإرسال،
يقول: تعجبت من همتها واستمرارها وعدم انقطاعها من هذا العمل لسنوات. يقول: ومع
الأيام اكتشف شيئاً عجيباً، اكتشفت أن هذه المرأة صاحبة الهمة والنشاط امرأة بدون
أطراف ولا تستطيع ان تتحرك، هي تحمل وتنزّل من على سريرها، وذلك من آثار حادث حريق
تعرضت له، وإذا بها قد استقدمت خادمتين فأحسنت تعليمهما على هذا المشروع،
وبتوجيهاتها من على فراشها تنطلق مئات الرسائل لكل مكان في العالم في الشهر، كانت
تشعر بالسرور وهي تقرأ الردود بالتأثر والهداية بعد الضلال، فماذا لو علم أصحاب
الردود أن سبب إنقاذهم ودلالتهم على الخير وهدايتهم هي امرأة مقعدة لا تستطيع
نفعاً حتى لنفسها.
- داعية مسلم شهير في مدينة
"ميونخ" الألمانية، وعند مدخل المدينة وجد لوحة كبيرة مكتوب عليها أنت
لاتعرف إطارات يوكوهاما، فنصب هذا الداعية لوحة كبيرة بجانب هذه اللوحة وكتب عليها
(أنت لا تعرف الإسلام إن أردت معرفته اتصل على هاتف ...) وانهالت عليه اتصالات من
الألمان من كل حدب وصوب حتى أسلم على يديه في قرابة سنة واحده ألف ألماني مابين
رجل وامرأة ،وأقام مسجداً ومركزاً إسلامياً وداراً للتعليم هناك.
- شاب نحيل الجسم، كثير الحياء، قليل
الكلام، همه الإسلام والعمل للدين، لم يتجاوز السابعة والعشرين لكنه ذو رأي وقول
سديد. يقول أحد زملائه: رافقته مراراً في رحلات دعوية، كم أصابنا فيها من التعب
والإرهاق والمشقة والعناء، ومع هذا رأيت منه العجب العجاب، كان صاحب قيام ليل،
وليس بأي قيام ... بل قيام طويل تتعب منه الأقدام، كان يقوم بالليلة الواحدة بخمسة
أجزاء من القرآن وما تخلف عن ذلك ليلة واحدة مهما كانت الأحوال.
اللهم
إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، ونسألك شكر نعمك وحسن عبادتك،
ونسألك قلباً سليماً ولساناً صادقاً، ونسألك من خير ما تعلم، ونعوذ بك من شر ما
تعلم ونستغفرك لما تعلم إنك انت علام الغيوب.[1]
[1] المراجع:
-
مادة علمية
سابقة ألقيتها في أحد الدور.
-
مقتطفات من كتاب
علوّ الهمّة, للشيخ محمد إسماعيل المقدّم.
-
شريط الرجل
الألف للشيخ إبراهيم الدويّش.
-
موقع صيد
الفوائد.