بر الوالدين
لتحميل المحاضرة pdf اضغطي هنا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره.. ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا
إله إلا الله وحده لاشريك له.. وأشهد أن محمداً عبده و رسوله أرسله الله تعالى
بالهدى ودين الحق فبلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح
الأمة وجاهد في الله حق جهاده بنفسه وماله وجاهه.. فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى
آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..
أما
بعد:
فإن
الله تعالى خلقنا من العدم وأمدّنا بالنعم وأزال عنّا النقم، فلنقم بما أوجب الله
علينا من حقوقه التي خلقنا لأجلها ومن حقوق عباده التي أعظمها: حق الرسول عليه
الصلاة والسلام: (لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، و والده، والناس
أجمعين)..
ثم
بعد حق الرسول e: حقوق الوالدين، وأول مايريده الوالدان من أبنائهم (البر).
البر:
ليس فقط قضية أخلاق نتخلق بها، البر عقيدة ندين الله بها..
)وَقَضَى رَبُّكَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا( )وَاعْبُدُوا اللَّهَ
وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا( مباشرة
بعد أعظم أمر قامت به السماوات والأرض وخلقت لأجله الخليقة (التوحيد)
يأتي
بعده: (بر الوالدين) تجدين أهل الملل والنحل والعقائد يذكرون بر الوالدين
في كتب العقيدة
تجدينه
في العقيدة الطحاوية، في العقيدة الواسطية، في عقيدة أهل السنة والجماعة في
الأبواب الأخيرة: "ومن أخلاقهم أنهم بررة بآبائهم".
ذكر
الله هذه العقيدة في القرآن، وذكرها المصطفى e،
وعُلّق عليها الكثير من الأجر..
هي
وصية الله تعالى لنا قال تعالى: )وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا(
قال
الشيخ المغامسي–حفظه الله-: "هذا دليل أنه
ينبغي أن يكون برّه لوالديه لأنهما وصية الله عزوجل إليه".
وما
نقرأه في كتب الدراسة ومواضيع التعبير شيء حسن أن يُذكّر الكاتب أو المؤلف مايدفع
لأن نبرّ والدينا.. لكن ينبغي أن يكون الباعث الأول لبرّنا بآبائنا
وأمهاتنا (أن الله عز وجلّ أوصانا) فلو تغيرت عليكِ والدتك، أو تبدّل عليك والدك،
أو أغلظ عليكِ في الخطاب، أو كلفكِ أحدهما ما لاتطيقين فقبل أن تدفعك نفسك إلى
الرفض أو مجرد التذمر؛ فتذكري أن العلي الأعلى أوصاكِ بهما!
وكفانا
والله شرفاً أن نكون عباداً لله نلتزم وصيته، وفي مثل هذا المقام يعرف مقام
العبودية.. والعاقل يعرف أنه عبد لله لا يخرج عن سلطانه وليس الأمر الذي يفصل في
مقام العبودية ذلك الأمر الذي يتفق مع رغباتك ومطالبك وإن كان حقاً.. ولكن الأمر
الذي يفصل في مقام العبودية ذلك الأمر الذي تتلقّينه وهو يخالف هواك، يخالف حالك،
لكننا نفعله لأننا نعلم أننا عبيد لله..
(قصة الشاب الأمريكي الذي زاد برّه بأمه).
تذكري
أن بركِ بأمك وأبيك هو في الأصل نعمة من الله عليك، الله تعالى هداك لأن تبريهما،
والنعمة حقّها أن تشكر )قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ(
ثم قال: )وَأَصْلِحْ لِي فِي
ذُرِّيَّتِي( لأنه كان بارًا أحبّ أن يبرّه ذريته، ولمّا خاف من الزلل قال : )إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(
جاء في السنن
بسند صحيح: (عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي خَطَبْتُ امْرَأَةً، فَأَبَتْ
أَنْ تَنْكِحَنِي، وَخَطَبَهَا غَيْرِي، فَأَحَبَّتْ أَنْ تَنْكِحَهُ، فَغِرْتُ
عَلَيْهَا فَقَتَلْتُهَا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: أُمُّكَ حَيَّةٌ؟
قَالَ: لَا، قَالَ: تُبْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَقَرَّبْ إِلَيْهِ مَا
اسْتَطَعْتَ. فَذَهَبْتُ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: لِمَ سَأَلْتَهُ عَنْ حَيَاةِ
أُمِّهِ؟ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَعْلَمُ
عَمَلًا أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَةِ)
لا يمكن أن يرزق
الإنسان وهو قاطع للرحم وأكبر قطيعة للرحم "عقوق الوالدين" كلنا يحفظ
حديث: (من أحق الناس بحسن صحبتي... ) لنتأمل (حسن صحبتي)، نحن نحفظها لكن للأسف
الكثير لا يعيشها واقع في حياته،
اليوم الواحدة
منَّا تحسن صحبة قريبتها، جارتها... تقف معها في الأزمات، تدعمها وقت الحاجة، حين
تراها ترحّب ويتهلل وجهها، ترسل لها الرسائل المليئة بالحب والعاطفة،
في حين أنها لا
تحسن إرسال هذه الرسائل لوالدتها، ولا تحسن حتى زيارة أمها، بل البعض تجلس مع أمها
جلسة الحاضر الغائب، تجدينها كثير من الأعمال تعملها بجانب أمها "بروح لأهلي
آخذ أشغالي معي!"
ساعة مع أمك أو
أبوك لابد أن تكون خالصة، كوني معهم روح وجسد، البعض جالسة مع أمها والجوال بيدها،
مرة تناظر لأمها ومرة تناظر بجوالها، أرى بعضنا ما تشوف أهلها إلا مرة في
الأسبوع.. كثير عليهم تغلقين جوالك قبل تدخلين وتفرغين نفسك لهم! وتحسسينهم أن ما في
عندك أهم منهم.
من لم يتعامل مع
أمه وأبوه أنهم جنّة فليعد ترتيب أولوياته!
جاء في حديث
صحيح رواه الإمام أحمد: (من سرّه أن يمد له في عمره،
وأن يزاد له في رزقه، فليبر والديه، وليصل رحمه)
قالe (رغم
أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف) ، قيل: من؟ يا رسول الله قال: (من أدرك أبويه عند
الكبر، أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة). رواه مسلم.
منزوع بركة
المال ومنزوع بركة الوقت وبر الأولاد، مهموم!
دعا عليه الرسول
عليه الصلاة والسلام بالذهل والهوان من كان عنده والدين ولم يكونا سبب لدخوله
الجنة.
بر الوالدين: من
أعظم أسباب دخولك الجنة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ
فِيهَا قِرَاءَةً، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ " فَقَالُوا: حَارِثَةُ بْنُ
النُّعْمَانِ كَذَلِكُمُ الْبِرُّ، كَذَلِكُمُ الْبِرُّ) –وكان أبرّ الناس
بأمه-
لكن.. هل أُغلق
الباب؟ لما تسمع هذه الأحاديث من توفّي والديها أو أحدهما، هل هذا يعني أن السبيل
إلى هذا الأجر قد انتهى وتوقّف؟
اسمعي ماذا يقول
الشيخ الشنقيطي حفظه الله:
من أصدق ما يكون
البر: البر بهما بعد الموت، لماذا؟ لأنه انقطع عنهم العمل إلا من الثلاثة التي
ذكرها عليه
الصلاة والسلام (صدقة جارية، علم ينتفع به، ولد صالح يدعو له)، فكوني أنت هذا
البارّ الذي زكّاه المصطفى عليه الصلاة والسلام، وامتدحه فقال عنه أنه (صالح) فإذا
أردتِ أن تكوني من الصالحين فادعي لوالديك بعد الموت..
قد تقولين :
"اللهمّ افسح لهما في قبرهما" فيكون القبر ضيقاً فتوافق دعوتك ساعة
إجابة فيفسح لهما إلى قيام الساعة بدعوة صالحة منك!
(الراحمون
يرحمهم الرحمن) وأحق الناس بالرحمة الوالدين.
ثمّ إن برك
بوالديك بعد الموت يكون أقرب إلى الإخلاص لأن الوالد لا يراك وبرّك لن يكون
مجاملة، أو لتحصلي على أثرة ومنزلة بين أخوتك، وإنما الذي يراك ويعلم بحالك هو
علام الغيوب.
والله لو متّ
قبلهم والله مانسوك بل البعض تمرض ويذهب عقلها من كثرة ذكرها لابنها المتوفي..
وتدعو له في كل سجدة،
إذن برِّك بهما
بعد وفاتهما أعظم وهم أحوج إليه، وأحوج إلى صدقة تتصدقينها عنهم، وهي جائزة حتى في
حال حياتهما، تؤجرين عليها ويكون لك أجر الصدقة وأجر البر.
- روى المأمون أنه لم يرَ أحد أبرّ من "الفضل
بن يحيى" بأبيه: فقد كان أبوه لايتوضأ إلا بماء ساخن، فلما دخلا السجن
منعهما السجان من إدخال الحطب في ليلة باردة، فلما نام أبوه قام الفضل وأخذ إناء
الماء وأدناه من المصباح فلم يزل قائماً به حتى طلع الفجر، فقام أبوه وصب عليه الماء
الدافئ، فلما كانت الليلة الأخرى أخفى السجان المصباح فقام الفضل فأخذ الإناء
فأدخله تحت ثيابه و وضعه على بطنه حتى يدفأ بحرارة بطنه متحملاّ بذلك برودة الماء
والجو.
- سمعتم بأويس
القرني؟
هذا الرجل هو
الوحيد الذي زكّاه النبي عليه الصلاة والسلام من التابعين، وحيثه في صحيح
مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: (يأتيكم أويس بن عامر من اليمن كان به
برص فدعى الله فأذهب الله عنه هذا المرض، كان له أم هو بها بر، يا عمر إذا رأيته
فمره يستغفر لك)
قال العلماء:
"لأنه كان باراً بوالدته".
جاء يوم من
الأيام ودخل الحج فكان عمر-رضي الله عنه- حريص على أن يقابل هذا الرجل (أويس)،
فجاء وفد من اليمن فقال عمر رضي الله عنه: أفيكم أويس بن عامر؟ فجاء أويس رجل
متواضع من عامّة الناس، قال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: كان بك برص فدعوت
الله فأذهبه؟ قال: نعم، قال: فاستغفرلي.. قال: يا عمر أنت خليفة المسلمين!! قال:
إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ... وذكر قصته. فاستغفر له أويس
فلما انتشر
الخبر بين الناس اختفى عنهم وذهب حتى لايصيبه العجب أو الثناء فيحبط عمله عند الله
عزوجل.
- جاء
عن عائشة رضي الله عنها قالت:كان رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
أبرّ من كانا من هذا الأمة بأمِّهما، عثمان بن عفان، وحارثة بن النعمان رضي
الله عنهما..
فأما عثمان فإنه
قال: ماقدرت أن أتأمّل أمي منذ أسلمت.
وأما حارثة:
فإنه كان يفلي رأس أمه، ويطعمها بيده، ولم يستفهمها كلاماً قط تأمر به، حتى يسأل
من عندها بعد أن يخرج: ماذا أرادت أمي؟.
-الزبير بن
هشام بارّاً بأبيه، وكان إذا أوتي بالماء البارد في الحرّ فذاقه و وجد برده لم
يشربه وأرسله إلى أبيه.
سُئل ابن عباس
عن معنى عقوق الوالدين فقال: "لو أن الولد نفض ثوبه فتطاير الغبار على أبيه
أو أمه كتب عند الله عاقاًّ"! فاللهم ارحم ضعفنا.
طيّب.. هل اقتصر
البرّ على السابقين والسلف؟ لا والله، من فضل الله علينا أننا نسمع ونقرأ عن أناس
حقّقوا وصية ربهم واستجابوا لأمره (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ
الرَّحْمَةِ)
يعني المطلوب
منا ليس فقط طاعة أوامر..
إنما
تذلل، مثل مايكون من العبد عند سيده من الذلّ والتودّد والتلطف والمداراة، خصوصاً
عند الكبر لأن الله عزوجل أكّد على هذه المرحلة بالذات فأفرد ذكرها فقال (إِمَّا
يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا
أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)
قال القرطبي: "خصّ
الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى برّه لتغيّر الحال عليهما بالضعف
والكبر، فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل، لأنهما في
هذه الحالة قد صارا كلّاً عليه، فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في
صغره أن يليا منه، فلذلك خصّ هذه الحالة بالذكر... وقد أمر أن يقابلهما بالقول
الموصوف بالكرامة وهو السالم من كل عيب فقال: "فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما
وقل لهما قولاً كريماً".
في قصة واقعية حصلت
في أحد مناطق المملكة: عاشت عجوز كبيرة في السنّ في رعاية ابنها الأكبر الذي يعيش
وحيداً، وعندما تقدّم به العمر وشاب وضعف جسمه وابيضّت لحيته، جاء أخوه من مدينة
أخرى ليأخذ والدته لتعيش معه ومع أسرته، لكن الابن الأكبر رفض محتجاً بقدرته على
رعايتها، و وصل بهما النزاع إلى المحكمة و احتدم الخلاف، وتكررت الجلسات، وكلا
الأخوين مصرّ على أحقيته برعاية والدته! وعندها طلب القاضي حضور الأم العجوز
وسألها عمّن تفضّل العيش معه، قالت مشرة إليهم: هذا عيني، وهذا عيني الأخرى،
وعندها اضطر القاضي أن يحكم بما يراه مناسباً، وهو أن تعيش مع أسرة الأخ الأصغر فهو
أقدر على رعايتها، عندها بكى الكبير وامتلأت لحيته بدموعه حسرة على حرمانه من
رعاية أمه! فما أعظم حظّ هذه الأم بهذا البر..
كذلك من بر
الوالدين: أن يجتمع الأبناء على قلب رجل واحد، فأعظم مصيبة عند الوالدين أن يفترق
أبنائهما في حياتهما، فالاجتماع من الرحمة والفرقة من العذاب..
وفي المقابل من
مظاهر العقوق: الجدال و رفع الصوت بين الأبناء على بعضهم أمام والديهم, لأن من
أعظم ماتقرّ به أعين الوالدين "تآلف أبناءهم".
اللهمّ نسألك
بعزّتك وقدرتك يا خير من سُئل ويا خير من يؤمل في عطاءه..
اللهمّ إنا
نسألك في هذه الساعة أن تنزل رحماتك ومغفرتك التامة على والدينا،
اللهمّ ما كان
عليهم من حق لك فنسألك أن تجعلهم في حلٍّ منه،
وماكان من حق
لخلقك فنسألك أن تتحمّله عن والدينا،
اللهمَّ أمّنهم
في القبور، وأمّنهم يوم البعث والنشور ياحيّ ياقيوم..
اللهمَّ من كان
منهم حيّاً فأحسن خاتمته وأصلح عمله وأدم له الصحة والعافية و وسّع له في رزقه..
اللهمَّ واجعلنا
من البارّين واجزهم عنّا خير ماجزيت والداً عن ولده..
سبحان ربك رب
العزة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين..