فقه الابتلاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ... وبعد
حديثنا اليوم بإذن الله عن فقه الابتلاء.. وعندما أتحدث
عن الابتلاء فإنني أتحدث عن حقيقة هذه الدنيا.. والله تعالى يقول )إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ
نَّبْتَلِيهِ( ولم يقل سبحانه (نعافيه)
الأصل هو البلاء.. ولا يسلم منه أحد، والعافية والسلامة
من البلاء هي الطارئ.. فلماذا نحزن لفوات الطارئ وبقاء الأصل.
وكلُّ يبتلى على قدر إيمانه.. وقد يدخل على القلب داخل فيقول:(أُنقص من
إيماني حتى ما يبتليني الله) وهذا ولا حول ولاقوة إلا بالله من خيبة الصبر أن يحدث
نقص في علاقته مع ربه خوفاً من البلاء ..
لا، الكل مبتلى .. لكن أكثر الناس
مقربة من الله أكثرهم معرفة به.
وفي المسند عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، أي
الناس أشد بلاء؟ قال: (الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل من الناس،
يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه
رقه خفف عنه، وما يزال البلاء في العبد حتى يمشي على الأرض ليس عليه خطيئة).
v معنى
الابتلاء؟
الابتلاء هو الاختبار.. الله سبحانه يبتلي عبادة لتظهر
حقيقة حالهم وماهم عليه.. وهو سبحانه أعلم بكل ما يقع قبل وقوعه وبعد وقوعه.. لكنه
تعالى يبتلي لاختبارهم وامتحانهم )أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا
يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ( والابتلاء
شامل لجميع أحوال الناس، فالخير والنعمة ابتلاء .. كما أن الشر والمصيبة ابتلاء )وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً(
لا تظنين أن الابتلاء فقط بالمصائب .. لا .. حتى النعم اختبار من الله
تعالى، هل توظفينها في طاعة الله أم لا؟
الصحة، الجوارح، السمع، البصر، المال، الذرية.. والمرجع والمعاد إلى الله فيجازي
العباد بعدله أو رحمته وعفوه.
v لماذا
الحديث عن فقه الابتلاء؟
1.
الابتلاء ضرورة إيمانية )ما كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا
أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ( لا يتميز العبد المؤمن إلا بالابتلاء. مثل الذهب لا يخلص ويصفو
إلا بكير النيران.
وإذا علم المؤمن ذلك أيقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما
أخطأه لم يكن ليصيبه لذلك هو على ثقة أن الله سبحانه ما ابتلاه إلا ليحبه.
2.
الابتلاء مقدمة التمكين..
وسئل الإمام الشافعي -رحمه الله- : "أيهما
أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى؟ فقال: لا يمكن حتى يبتلى".
والتاريخ مليء بالأمثلة (ابن تيمية سجن سنوات، أحمد بن
حنبل سجن وجلد) والكثير ممن رفعهم الله ما خلت حياتهم من الابتلاء والامتحان.
)وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا
لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ(
قال بعض العلماء عن هذه الآية: "بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين".
ولا يشترط للتمكين أن يوصل العبد معه إلى الملك، لأن
أعظم تمكين أن يوفقك الله بالاشتغال بكتابه حفظاً وتدبراً وعملاً، وأن يرزقك الله
الرضا عنه سبحانه والسرور بالبلاء وهذا غاية التمكين.. وقد سمعت عن أكثر من واحده
في المعهد .. تقول دخلت المعهد حتى أسلى وأصد عن المشاكل والمصائب وخصوصاً بعضهم
متزوجات ويعانون من أزواجهم وتقول: الحمد لله عوضني ربي، وش أعظم من حفظ كتاب
الله؟
3.
الابتلاء علامة خير للعبد، قال e (من يرد الله به خيراً يُصب منه).
ما معنى هذا؟ إما أن يكون العبد على معصية فيرزقه الله بعد البلاء
توبة، أو يكون على خير فيزداد رفعة في درجاته، لأن المرء قد تكون له درجة لا
يبلغها بعمله بل يبلغها ببلائه.
4.
الابتلاء
علاج للنفوس التي اشتكت تأخير النصر.
-امرأة عشرين سنة تتوالى عليها مشكلات وتقلبات في أحوالها مع زوجها
وأبنائها وأهلها ودائماً تتعجل العافية.. وبعد 20 سنة مرضت مرض شديد تقول: فتذكرت مصائبي
السابقة وأيقنت أنها لا شيء أمام مرضي هذا ... وفي العامية نقول (الله لا يبردها
بأحر منها).
جاء الصحابة إلى النبي e قالوا: (ألا تستغفر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ قال: (كان الرجل فيمن
كان قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق
باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب،
وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر
موت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)
لا تحزني إن لم تجدي هداية البشر لأنها ليست علي ولا
عليك.
في الحديث (يأتي النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل
والرجلان، والنبي وليس معه أحد) وهو مؤيد بالوحي والرسالة.. فكيف بنا؟ ولكن
ادعي وقولي اللهم لا تحجب هذه الدعوات عني بسبب ذنبي، وتقربي بحسن خلقك ولا تجعلي
معاصي الخلق حائل في العلاقات الاجتماعية.
)فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (عمم الفساد بشكل عام .. ثم خص قطيعة الرحم لعظمها.
v أقسام
الناس حين نزول البلاء:
1.
محروم يقابل البلاء بالتسخط وسوء الظن بالله واتهام
القدر، ونسي أن من أركان الإيمان أن تؤمن بالقدر خيره وشره .. هذا ركن علموه أو
جهلوه.
2.
موفق يقابل البلاء بالصبر وحسن الظن بالله .
3.
راض يقابل البلاء بالرضا والشكر، وهو قدر زائد عن الصبر.
v أحوال
عظيمة مع البلاء:
·
النبي e:مات عمه أبو طالب، ماتت خديجة رضي الله
عنها، ثم بناته، ثم ابنه إبراهيم، يوم أحد .. الله جل وعلا أعظم من أن يشك في
قضائه أو أن يتراجع في قدره.
·
يوسف عليه السلام: لكل مكروب اقرأ سورة يوسف، طفل ينقل بين أحبابه وأخوته
وأقرب الناس إليه ليودع في الجب، في مكان مهلِك لكن جاءه الوحي رحمة من ربه..والتمكين
ستتعرفين عليه بتتبع قصة يوسف، قصة في السجن ثم مع ملك مصر، ثم مع التمكين، وقصته
مع أخوته لمّا أذّن المؤذن، إلى أن كانت النتيجة : )وَرَفَعَ
أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا
تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ
بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ
أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا
يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(.
·
إبراهيم عليه السلام: ابتلي في أبوه يعبد الأصنام، وابتلي في جسمه فقذف
النار، وابتلي في ابنه فأمر بذبحه، وابتلي إلى ذلك بابتلاء من نوع خاص وهو تحميله
أمانة الإمامة )وَإِذِ
ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ(. حياة إبراهيم عليه السلام كلها دروس.
·
أيوب عليه السلام: )وَأَيُّوبَ
إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ*فَاسْتَجَبْنَا
لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ
مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ( .....
·
عروة بن الزبير: ابتلى في موضع واحد بقطع رجله وموت ابنه فقال: "اللهم
كان لي بنون سبعة فأخذت واحد وأبقيت لي ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت طرفاً
وأبقيت لي ثلاثة، ولئن ابتليت لقد عافيت، ولئن أخذت لقد أبقيت"
v كيف
أرتقي إلى منزلة الفقه في الابتلاء؟
تعرفي على الله بأسمائه وصفاته، فلا شيء يخفف وطأة
البلاء كالمعرفة بأسماء الله وصفاته.
قيل للحسن: "يا أبا سعيد من أين أُتي هذا الخلق؟ قال: من قلة
الرضا عن الله، قيل: ومن أين أتي قلة الرضا عن الله؟ قال: من قلة المعرفة
بالله"
هو سبحانه ابتلاك ليكفر عنك يسمع صوتك ولأن لك منازل في
الآخرة لا تبلغينها إلا بالابتلاء..
قال قاسم الجوعي: "كل يعطى أجره بمقدار إلا الصابر يغرف له غرف".
ثلاثة في الآخرة لا تعلم أجورهم: "الصابر، العافي،
الصائم". ، تعرفي على اسم الله اللطيف..
v إذا
ابتلى العبد ببلاء أحب الله منه أن يذكر عافيه كان فيها ... لستة أمور:
1.
حتى تعلمي أن وسع عليك في الأولى سيوسع عليك في الثانية.
2.
ليجمع لك بين مقامين يحبهما الله تعالى (الصبر، والشكر)
الصبر على بلاء هو فيه، والشكر لنعمة كان فيها.
3.
ليحسن ظنك بربك.
4.
لتعلمي أن الله يضيق عليك لحظات وأوقات حتى يعلمك معنى
اسم من أسمائه (الواسع، الجبار، الفتاح...)
5.
حتى تذكرين نعم الله السابقة عليك.
6.
لأن الله يحب العبد الملحّ بالدعاء.. ) أمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ(
v مما
يعين على فقه الابتلاء:
-يقينك أن فقه الابتلاء سنة، واحذري أن ينطقك الشيطان
بسخط، ترى الفرج قريب.
-استشعارك أن هذا البلاء اصطفاء ودليل حب الله للعبد: (إن
الله إذا أحب عبداً ابتلاه ليسمع صوته).
-أن بهذا البلاء تكفير لما كان منك من التقصير.
v مسألة:
إذا ابتلاني الله .. كيف أحكم يحبني أم عاقبني؟
يقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب في كتاب التوحيد: "المصائب رحمة ونعمة في حق عموم
الخلق، إلا أن يدخل صاحبها بسببها في معاصي أعظم مما كان قبل ذلك، فتكون شراً عليه
من جهة ما أصابه في دينه (يعني من التسخط والجزع) لا من جهة المصيبة نفسها".
يقول عمر-رضي الله عنه-: "إما تصبر
صبر الكرام، أو تسلو سلو البهائم"
ويقول علي-رضي الله عنه- : "إن صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإن جزعت جرى
عليك القلم وأنت مأزور"
وقد يفتح الله لك بهذا البلاء من الذل والانكسار بين يدي
الله وتقوى صلتك بالله تعالى من حيث لا تشعرين. قال e: (والذي نفسي بيده لا يقضي الله لمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له).
وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين[1]